أثر تدخل الإنسان على التلوث الزراعي
نبذة تاريخية
عندما قطن اليونانيون المنطقةَ أسموا النهرَ باراديسوس paradeisos، أي "الفردوس". وعندما أتى العرب استخدموا الكلمة نفسها مع تعديل لفظي طفيف، فعُرِفَ بعدهم باسم "بردى". أذكر من أيام طفولتي أننا كنَّا في بعض الفصول نشرب ماء هذا النهر. أما الآن فإن لا أحد يتجرأ أن يمدَّ يده إلى ذلك الماء في الفصول كلِّها. لقد أصيب النهر بعجز كامل! ولم يتوقف الأمر، في الواقع، عند تلوث مياهه فقط، بل إن هذا التلوث بات الآن يطال الإنسان عبر عدة عوامل، كالسقاية من مياهه وإسقاء الحيوانات منها. وإن تلوث النهر يُفقِد الأرض خصوبتها.
لقد أصبح بردى الكهريز الرئيسي لمدينة دمشق وكلِّ القرى الواقعة في حوضه. لذا فإن 80% من مياهه هي مخلفات بشرية؛ وهي، والحالة هذه، وسطُ تنميةٍ نَشِط لأنواع الجراثيم والبكتريا والفيروسات المعادية للحياة كافة. ومن أبرز سمات عدائها للحياة تخفيضها كمية الأكسجين المنحل في المياه إلى درجة خطيرة.
وتصبُّ في مياه بردى كلُّ مخلَّفات الصرف الزراعي المشبعة بالمواد الكيميائية المستخدمة كأسمدة. ومن بين هذه المواد الفوسفات والآزوت اللذان يُعتبَران الغذاء الأساسي لنموِّ البكتريا والأشنيات. وهذا، بدوره، يعطي مدًّا أكبر للتلوث البيولوجي الذي ذكرناه. إن مشكلة الأسمدة الكيميائية هي مشكلة عالمية. فمعظم البحيرات في العالم، وعدد غير قليل من الأنهار، انتفتْ فيها الحياة الحيوانية والنباتية بسبب هذه الأسمدة؛ بينما يمكن للاستخدام الفعال للأسمدة الطبيعية أن يطعم العالم كلَّه، بما في ذلك جياعه.
وتسيء بعض المصانع الصغيرة المنتشرة على طول مجرى بردى إلى بقاياه. فهناك معامل النسيج، وما تنتجه من مواد الكالسيوم والمغنزيوم ومواد القصارة وحمض الكبريت وحمض كلور الماء والأصبغة الحاوية على الكروم، شديد السمية، والكبريت. أما أعمال الدباغة فهي مصدر عالٍ للتلوث؛ إذ تتصف مخلَّفاتها بقلوية عالية، وهي كريهة الرائحة، قابلة للتعفن، كما تُعتبَر موطنًا لتأثير البكتريا والفيروسات. وكذلك شأن تصنيع الخميرة. وبالمقابل يزيد صنع الكرتون وغسل الصوف من نسبة المواد العالقة بدرجة خطيرة. ويدلي معمل الحليب بدلوه أيضًا، فيزيد التلوث العضوي ونسب المواد العالقة والقلوية؛ بينما يزيد معمل الكبريت من نسبة الكبريت السام. ولن نستطرد في جرد هذه المعامل الصغيرة، ولكننا نتساءل عن مدى ضرورتها لحياتنا. وإذا كانت ضرورية، فلماذا لا يعاد إنشاؤها في أمكنة أخرى؟ أو على الأقل، أن تُلزَم بنظام حماية للبيئة يقي الطبيعة من نفاياتها.
لا يقتصر خطر التطور المعاصر على الأنهار على تلويث مياهها فقط؛ بل إن هذا التطور يُنقِص كمية هذه المياه إلى درجة تسيء إساءة عميقة إلى توازن الطبيعة. وليس هذا بعجيب؛ إذ يكفي أن نتذكر ضخامة الصناعات الحديثة، وأن نقوم فكريًّا بجداء مقدار هذه الدلائل في حجم المياه اللازمة لصنع هذه المنتجات أو تلك: يتطلب إنتاج طن واحد من الصلب 50 طنًّا من الماء؛ وبصورة مناظرة، يتطلَّب إنتاج طن واحد من الأصباغ إنفاق مقدار متوسط من الماء يبلغ 500 طن؛ ويحتاج الطن الواحد من الحرير الصناعي إلى 1500 طن من الماء، والطن الواحد من النايلون إلى 2500 طن من الماء.
إن المصانع الحديثة الضخمة للكيميائيات وتحويل المعادن وإنتاج السللوز والورق والمحطات الحرارية لتوليد الكهرباء "تشرب" أنهارًا كاملة بكلِّ معنى الكلمة! ولا يزال التقدم التكنولوجي مقترنًا بزيادة حادة في استهلاك المياه للحصول على القطعة الواحدة من المنتجات. ويبدو ذلك في واقع الحياة كالتالي: في مصنع النسيج القديم نسبيًّا لإنتاج الأقمشة الصوفية الطبيعية، يتطلب إنتاج الطن الواحد من النسيج 300 طن من الماء؛ أما البديل الاصطناعي للصوف فيتطلب قدرًا من الماء يزيد بـ5-6 مرات عن ذلك. وبما أنه من المؤكد تقريبًا أن المصنع الجديد أقدر، وينتج كمية أكبر من المنتجات، ندرك بسهولة شدة زيادة ما يتم استهلاكه إجماليًّا من الماء. وأخيرًا، فإن الصناعة الحديثة تتطلَّب ماء أنقى، تصعب تصفيته بعد الاستعمال في معظم الأحيان.
أذكر، في معرض الحديث عن بردى، النزهات على ضفاف النهر وفي حوضه التي تزيد نسبة المواد العالقة في مياهه. يبدو للوهلة الأولى أن زيادة تلوث النهر ستؤدي إلى إنقاص عدد تلك النزهات، لأن تلوث الطبيعة يخفف إمكانات الاستمتاع بها. ولكن – لشدة العجب! – يزداد ذلك العدد باطِّراد، وكأن التلوث قد أصاب بدوره الآليةَ الروحية التي إذا عملت استمتع صاحبها بالطبيعة. لقد اندثرتْ اللغة الأصلية للتخاطب مع الطبيعة، وأصبحت تلك النزهات غاية في حدٍّ ذاتها.
لن أدخل في تفاصيل ما تسببه النزهات من تلوث؛ ولكنني سأتوقف عند معلومة صغيرة، وهي أن كلَّ ما نستخدمه من أكياس وأدوات حفظ بلاستيكية، نتركها عندما نتنزه، وكذلك يتركها أصحاب المطاعم والمقاهي، هي مواد عجيبة حقًّا. إنها مواد ثابتة؛ ولكن هذا الثبات هو مصيبة في حدٍّ ذاته؛ فهي تتأكسد ببطء وبصورة غير تامة. رُبَّ قائل يقول إن هذا الشيء ممتاز؛ إذ إن العلماء جميعًا يبحثون بإلحاح عن مختلف الإضافات الباعثة على الاستقرار، التي من شأنها أن تعيق بكافة السبل عمليات الأكسدة. إلا أن هذا يفضي، من ناحية أخرى، إلى أن هذه المواد تصير نفايات ثابتة أكثر فأكثر، مع العلم أن دور هذه المواد يزيد طوال الوقت، وتجرُّ إلى فلكها عددًا متزايدًا من الفلزَّات والمعادن. وسابقًا، عندما كانت المنتجات الزراعية العضوية هي التي تمثل الإنتاج أساسًا، كان يمكن للنفايات أن تتأكسد بسهولة كبيرة، فتحلِّلها الكائنات الدقيقة، وتذوب، فتحملها المياه الجارية بتركيز قليل. لا ينطبق ذلك على المواد المصنوعة الجديدة، إضافة إلى أن هذه المواد الجديدة سامة في معظم الحالات. إن أقل هذه المواد ثباتًا سيحتاج لألف سنة على الأقل حتى يتحلَّل. لذلك سيأتي وقت – ولا شك – تعجز الطبيعة عنده عن إرجاع أيِّ شيء. فهل سنترك الطبيعة للأجيال القادمة تستمتع بها، أو تعيش عالة عليها؟ سؤال علينا أن نتأمل معناه بهدوء.
إذا كانت الأسمدة الكيميائية ملوثة، فماذا عن مصانعها؟ تسود في بيئة تلك المصانع الغازات الملوِّثة، كأكاسيد الآزوت والفحم والنشادر، والغازات القلوية السامة جدًّا وأكاسيد الفوسفور؛ وبعض هذه المركَّبات تتحول إلى محاليل ملوِّثة وخطرة على التربة والمياه. يتصاعد الأمر في صناعة الفوسفات بشكل درامي: فهناك المواد المشبعة، كالأورانيوم والراديوم؛ ويحتاج الأمر، في هذه الحالة، إلى برنامج دقيق لتلافي الأثر السيئ لهذه المواد المشعة.
تتحرك المواد الملوِّثة في البلدان الصناعية مئات وآلاف الكيلومترات، مؤدية إلى الظاهرة المعروفة باسم "المطر الحامضي" acid rain. والمطر الحامضي هو مفتاح التصحُّر desertification، بل إنه الخطوة الأولى لإنهاء الحياة. فهو ينقص إنقاصًا كبيرًا ما يمكن أن نسمِّيه بالكائنات الحية "الصديقة" في الجو. ويصل تأثيره حتى أعالي الغلاف الجوي، فيهدِّد طبقة الأوزون التي تُعتبَر الدرع المنيع لحمايتنا من الأشعة الكونية الضارة، وخاصة الأشعة فوق البنفسجية القاتلة القادمة من الشمس.
نتطرق، في هذا السياق، إلى الغلاف الجوي، مُثبِتين الحقيقة الهامة التالية: إن الحياة، بكلِّ أشكالها، هي امتداد للغلاف الجوي المؤلَّف من مواد مختلفة بنسب متباينة، الذي استغرق زمنًا طويلاً حتى وصل إلى حالته الراهنة، عبر سلسلة مديدة من التحولات والتطورات. إننا لا نغالي إطلاقًا إذا اعتبرنا الغلاف الجوي، في حدِّ ذاته، كائنًا حيًّا، تلعب فيه الكائنات الحية المعروفة دور الأعضاء والنسج والخلايا. ولا بدَّ لنا في هذا المعرض من التذكير بالأهمية البالغة لنِسَب المواد المساهِمة في بناء الكائن الحي، وبالضرر العميق الذي يصيب ذلك الكائن إذا تغيرتْ تلك النِّسَب، ولو بكميات طفيفة. لدينا، إذن، الكائن الحي الأساسي: الغلاف الجوي، بأجزائه المختلفة: كلُّ أشكال الحياة على الأرض.
تطال الأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس الغلافَ الجوي، فتؤثر على الأكسجين الجزيئي في أعاليه، محوِّلة إياه إلى أكسجين ثُلاثي الذرات، هو الأوزون O3 الذي أشرنا إليه للتو. وتفكِّك تفاعلات طبيعية أخرى هذا الأوزون، معيدة إياه إلى الشكل الجزيئي. والنتيجة أن كمية الأوزون تبقى ثابتة ومساوية لثلاثة مليون مليون كغ. يؤدي نقص الأوزون إلى تدفق الأشعة فوق البنفسجية ووصولها حتى سطح الأرض. وتفكِّك هذه الأشعة جزيئات الماء؛ وهي لذلك تصيب بالضرر العضويات الحية كافة، لأن الماء يساهم في تلك العضويات بنسب تتراوح بين 60% و95%.
وتُنقِص معظم النشاطات التكنولوجية كمية الأوزون إنقاصًا ملحوظًا. دعونا نضرب على ذلك مثلاً واحدًا وحسب: تُستخدَم طريقة النفث من حاويات معينة لذرِّ بعض مركبات الفلور والفحم أو الكلور والفحم ونثرها لتحقيق غايات معينة. وتُستعمَل هذه المواد عادة في التبريد. تتَّسم هذه المواد بعدم قابليتها للانحلال في الماء وبعطالتها الكبيرة، الأمر الذي يسهل اندفاعها من سطح الأرض ووصولها إلى أعالي الغلاف الجوي. وهناك تُلاقي الأشعة فوق البنفسجية، فتتحلَّل مطلقةً غاز الفلور أو غاز الكلور؛ وكلٌّ من هذين الغازين كفيل بتفكيك الأوزون وإنقاص كميته. إن الأوزون غاز سام. ومن المفارقات الكبرى في هذا المجال أن بعض النشاطات التكنولوجية تزيد من كميته عند سطح الأرض. وقد عرفنا للتوِّ أن نشاطات أخرى تُنقِص من كميته في أعالي الغلاف الجوي، بينما يرتبط استمرار الحياة بكمية كبيرة منه في أعالي الغلاف الجوي وأخرى قليلة للغاية عند سطح الأرض.
تطرح النشاطات الإنسانية كلَّ عام 150 مليون طن من ثاني أكسيد الكبريت السام؛ وتُطرَح معظم هذه الكمية في الغلاف الجوي. يطال الضررُ من هذه المادة حتى ما أنجزه الأقدمون. فمثلاً الآثار القديمة، بدءًا من تاج محل في الهند إلى أكروبوليس أثينا، ستذيبها هذه المادة. وهكذا فأخطبوط التلوث قد لا يكتفي بإنهاء الحياة فقط، بل وكل أثر لها، مهما كان قديمًا. هل يمكن أن يأتي يوم على كوكب الأرض يصبح فيه ممسوحًا، حتى دون أيِّ أثر دال على وجود سابق لكائن واعٍ كالإنسان؟ نتمنى من القلب ألا تصل الأمور إلى هذا الحدِّ – رغم أن الأمنيات لا تكفي!
لم يُبدأ باستخدام الفحم الحجري على نطاق واسع إلا في النصف الثاني من القرن الماضي. غير أن مجموع ما استُخرِجَ إبان النصف الأول من قرننا من الفحم والبترول والغاز زاد على 100 مليار طن. وبعد احتراق هذا الوقود، قُذِفَ في الجوِّ بما لا يقل عن 3 مليارات طن من الرماد. ويدخل قسم منها في التربة والمياه بالأرض، ولا يقل عن 1.5 مليون طن من الزرنيخ و1.2 مليون طن من الأنتيموان والتوتياء اللذين لا يقلان سُمِّية عن الزرنيخ. ويُستهلَك سنويًّا مقدار ستة مليارات طن من الأكسجين في احتراق الوقود الأحفوري المستخرَج. وكان بالمستطاع أن يملأ هذا المقدار البحر الأبيض المتوسط كلَّه بالأكسجين.
لقد أظهرت الأبحاث أن المدن الكبرى في العالم تعاني من نقص كبير في الأكسجين. وتنخفض كمية الطاقة التي يحصل عليها سكان هذه المدن من الشمس بنسبة 30% بسبب غازات السيارات. نضرب مثلاً على ذلك مدينة نيويورك: يقول الطيارون إن من السهل إيجاد نيويورك في أيِّ طقس كان، بدون خارطة أو أجهزة، وذلك باستنشاق رائحتها. وليس في ذلك أية مبالغة؛ إذ تخيِّم على مدينة نيويورك، دائمًا وبدون حركة، سحابة رمادية هائلة يراها الطيارون بوضوح في جوِّ الصحو، وهم على مسافة كبيرة من المدينة. ويفسِّر الخبراء ذلك بأن السحابة ناجمة عن المدينة العملاقة التي تنفث في الهواء يوميًّا 3200 طن من ثاني أكسيد الكبريت و280 طنًّا من الغبار و4200 طن من أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون وأكاسيد الآزوت، وغير ذلك من المواد السامة. وتعيد السحابة، بدورها، رواسب يبلغ مقدارها 4 أطنان لكلِّ كيلومتر من المدينة. فلا ضرورة للعجب إذا ما كان يموت سنويًّا في نيويورك، بسبب تسمُّم الجوِّ وحده، حوالى عشرة آلاف شخص؛ ويشكل ذلك 12% من جميع الوفيات المسجَّلة.
التلوث بغازات الصناعة على ساحل مدينة يوكوهاما اليابانية
ليس سرًّا أن الغازات الملوِّثة قد بدأت تغير الطقس فعلاً، لأنها تغير الخواص الإشعاعية والديناميَّة والحرارية للغلاف الجوي. كما تسهم في هذا التغيير – وبقسط وافر – بنية البيتون المسلَّح والأعداد المتزايدة من أجهزة تكييف الهواء. وكما تحدثنا عن سحابة التلوث فوق نيويورك، نذكر سحابة المواد المعلَّقة فوق دمشق التي نراها بوضوح عندما نصعد إلى جبل قاسيون، أو عندما نقترب من أحد مداخل المدينة. ولعله مطلب بيئي ملحٌّ أن ندرس الآثار السيئة لهذه السحابة، ولاسيما تأثيرها على طقس المدينة. وتأتي الملوِّثات التي تزيد في حموضة الغلاف الجوي بصورة رئيسية من محطات توليد الطاقة المغذاة بالفحم، ومن عمليات صهر المعادن غير الحديدية، ومن نشاطات اقتصادية أخرى، وعلى الأخص مما تنفثه السيارات من غازات.
لم يُبدأ باستخدام الفحم الحجري على نطاق واسع إلا في النصف الثاني من القرن الماضي. غير أن مجموع ما استُخرِجَ إبان النصف الأول من قرننا من الفحم والبترول والغاز زاد على 100 مليار طن. وبعد احتراق هذا الوقود، قُذِفَ في الجوِّ بما لا يقل عن 3 مليارات طن من الرماد. ويدخل قسم منها في التربة والمياه بالأرض، ولا يقل عن 1.5 مليون طن من الزرنيخ و1.2 مليون طن من الأنتيموان والتوتياء اللذين لا يقلان سُمِّية عن الزرنيخ. ويُستهلَك سنويًّا مقدار ستة مليارات طن من الأكسجين في احتراق الوقود الأحفوري المستخرَج. وكان بالمستطاع أن يملأ هذا المقدار البحر الأبيض المتوسط كلَّه بالأكسجين.
لقد أظهرت الأبحاث أن المدن الكبرى في العالم تعاني من نقص كبير في الأكسجين. وتنخفض كمية الطاقة التي يحصل عليها سكان هذه المدن من الشمس بنسبة 30% بسبب غازات السيارات. نضرب مثلاً على ذلك مدينة نيويورك: يقول الطيارون إن من السهل إيجاد نيويورك في أيِّ طقس كان، بدون خارطة أو أجهزة، وذلك باستنشاق رائحتها. وليس في ذلك أية مبالغة؛ إذ تخيِّم على مدينة نيويورك، دائمًا وبدون حركة، سحابة رمادية هائلة يراها الطيارون بوضوح في جوِّ الصحو، وهم على مسافة كبيرة من المدينة. ويفسِّر الخبراء ذلك بأن السحابة ناجمة عن المدينة العملاقة التي تنفث في الهواء يوميًّا 3200 طن من ثاني أكسيد الكبريت و280 طنًّا من الغبار و4200 طن من أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون وأكاسيد الآزوت، وغير ذلك من المواد السامة. وتعيد السحابة، بدورها، رواسب يبلغ مقدارها 4 أطنان لكلِّ كيلومتر من المدينة. فلا ضرورة للعجب إذا ما كان يموت سنويًّا في نيويورك، بسبب تسمُّم الجوِّ وحده، حوالى عشرة آلاف شخص؛ ويشكل ذلك 12% من جميع الوفيات المسجَّلة.
التلوث بغازات الصناعة على ساحل مدينة يوكوهاما اليابانية
ليس سرًّا أن الغازات الملوِّثة قد بدأت تغير الطقس فعلاً، لأنها تغير الخواص الإشعاعية والديناميَّة والحرارية للغلاف الجوي. كما تسهم في هذا التغيير – وبقسط وافر – بنية البيتون المسلَّح والأعداد المتزايدة من أجهزة تكييف الهواء. وكما تحدثنا عن سحابة التلوث فوق نيويورك، نذكر سحابة المواد المعلَّقة فوق دمشق التي نراها بوضوح عندما نصعد إلى جبل قاسيون، أو عندما نقترب من أحد مداخل المدينة. ولعله مطلب بيئي ملحٌّ أن ندرس الآثار السيئة لهذه السحابة، ولاسيما تأثيرها على طقس المدينة. وتأتي الملوِّثات التي تزيد في حموضة الغلاف الجوي بصورة رئيسية من محطات توليد الطاقة المغذاة بالفحم، ومن عمليات صهر المعادن غير الحديدية، ومن نشاطات اقتصادية أخرى، وعلى الأخص مما تنفثه السيارات من غازات.
ويزيد التلوث الحامضي في نوى التكثيف التي تجذب الماء في الجوِّ والتي تعمل على تشكيل الضباب عند قيم منخفضة للرطوبة تصل إلى 60%. وفي بعض الأحيان يحصر الانقلاب الحراري (طبقة هواء دافئ فوق طبقة هواء بارد) الملوِّثاتِ الصناعية قرب سطح الأرض. ولقد أصبحت معظم أنهار العالم حامضية.
وهناك زمرة أخرى من المواد الملوِّثة، وهي المعادن السامة؛ ومنها الرصاص والكادميوم والسيلينيوم. وتُعَدُّ السيارات اليوم المصدر الأول للرصاص وأكسيد الفحم السامَّين: ففي بريطانيا، مثلاً، تنفث السيارات من أول أكسيد الفحم سنويًّا ما يساوي ستة ملايين طن. نعود إلى هنا، إلى سحابة التلوث الدائمة فوق دمشق ونذكر أن لون السحابة مردُّه امتصاص ثاني أكسيد الآزوت الذي تحتويه السحابة الانتقائي للضوء.
نطرح هنا تساؤلاً هامًّا: نحن بلد غير صناعي؛ وكذلك البلدان النامية الأخرى. وعلى الرغم من ذلك، هناك غزارة كبيرة في حركة المرور في طرقات هذه البلدان، خاصة في المدن. بكلمة أوضح، إن هذه البلدان تدفع ثمنًا باهظًا، متمثلاً في تلويث أجوائها دون مقابل إنتاجي على الصعيد الصناعي. ولو كانت تلك البلدان صناعية، إذن لربما قبلت التضحية. أما أن تكون القاعدة الاقتصادية لهذا التلوث مبنية بشكل أساسي على علاقات التداول، فهو أمر لا يمكن تسويغه منطقيًّا على الإطلاق.
لقد وصل أثر المواد الملوِّثة عبر الغلاف الجوي إلى المناطق القطبية، وبدأ بتهديد الحيوانات النادرة هناك، مثل طائر البطريق اللطيف و"الإنساني". وسيشهد القرن القادم نقل الصناعات الشديدة التلويث إلى بلدان العالم الثالث، في محاولة لتنقية أجواء العالم الصناعي.
يتجسد الأثر الأعمق للتلوث على الطقس في تعديل أسلوب تبادل الغازات والطاقة بين المحيطات والغلاف الجوي، حيث تقوم كلُّ المواد الملوِّثة بالإساءة إلى نواظم هذا الأسلوب، تلك النواظم التي تطوَّرتْ واستقرتْ عبر ملايين السنين من تاريخ الأرض. ويبرز النفط الممزوج بالماء والطافي على سطحه كأكبر مخرِّب لهذه النواظم.
نعلم جميعًا كيف تتمدد ببطء، وتتساقط مصحوبة بصوت بَقْبَقَة خافتة على سطح الماء، قطرةُ الكيروسين أو المازوت أو الزيت، وعمومًا أيٍّ من المنتجات البترولية. وغالبًا ما تسقط مثل هذه القطرات في الماء، وتتساقط في الأنهار والبحيرات والمحيطات. إنها تسقط من ارتفاع أمتار عديدة من طائرات الركاب العملاقة، ومن المحركات الصغيرة المثبتة في زوارق الصيادين، كما تتساقط مع مياه نفايات المعامل والمصانع، وتنساب في سيل عارم من الجوانب المحطَّمة لناقلات البترول الغارقة. وهي عمومًا تتساقط في الماء دومًا، وفي كلِّ مكان، بدون عدٍّ أو حساب، علمًا بأن كلَّ قطرة – قطرة واحدة فقط – تكوِّن على سطح الماء طبقة رقيقة عكرة – هي غشاء يبلغ قطره 30 سم، بينما يبلغ وزنها 0.5-0.8 غ. فماذا لو أعملنا المخيِّلة قليلاً؟ لقد سقط في العام 1972 فقط، في كلِّ محيطات وبحار العالم، من ناقلات النفط ما يساوي 3 ملايين طن من البترول. هذا هو ثمن القطرات المتساقطة المفقودة! ويستطيع الإنسان اليوم أن يغطي جميع سطوح المياه في الكوكب بطبقة رقيقة متواصلة من البترول. ورغم أن هذه الطبقة رقيقة جدًّا، فإنها تعزل الماء عن أكسجين الجو، وتغيِّر تغييرًا جذريًّا في عمليات التبخُّر، وكذلك في درجة الشدِّ السطحي للماء.
يُعتبَر غرق ناقلات البترول من أهم أسباب تلوث البحار
يتناقص احتياطي البترول في المكامن القديمة الموجودة على اليابسة. ومن هنا تتنامى الحاجة إلى الإبقاء بصورة اصطناعية على الضغط في طبقات الأرض الحاوية على البترول؛ ويتم ذلك بضخ المياه العذبة إلى باطن الأرض. وهكذا أخذ الماء يزيح النفط ويحلُّ محله. وبذا تذهب إلى باطن الأرض ملايين كثيرة من الأمتار المكعبة من المياه العذبة، وتزداد كمية المياه الضائعة بازدياد نفاد البترول. ومما لا يقل أهمية عن ذلك أنه صار يخرج مع البترول إلى السطح مقدارٌ كبير من الماء الملوث جدًّا بالبترول والأملاح المختلفة؛ وتفشل كلُّ طرق التنقية في تدارُك هذه الكارثة.
يصل أذى النفايات البترولية كلَّ الكائنات الحية؛ إذ تُهلِك تلك النفايات بيوض الأسماك ذات البنية الرقيقة. وعندما تبتلع الحيوانات والنباتات المكوِّنات الأساسية لهذه النفايات يمكنها، عن طريق الدورة الغذائية، إلحاق الضرر بالإنسان إلحاقًا مباشرًا. ولا يبدو في الأفق أيُّ أمل لإيجاد طريقة ناجعة لمكافحة تلوث المياه بالبترول. إن الرقع المائية من كوكبنا مهددة اليوم: فالحياة المائية، مثلاً، معدومة لمسافات كبيرة على شواطئ البلدان المتقدمة، بينما بحار أخرى مغلقة، كالبحر المتوسط، ستصير كهريزًا هائلاً للدول الواقعة على شواطئه في يوم ليس ببعيد. ويبدو أن الكائنات الحية تتفهَّم ذلك: فهي تهاجر من مناطق التلوث؛ وتفعل الطيور الشيء ذاته، إذ تترك الأماكن الملوثة من الجوِّ، وتغير في طرق هجراتها الدورية حتى تتحاشى المناطق المسمَّمة.
يدفع التلوث الحياة إلى نهاية محتومة. ويتوقع العلماء أحد شكلين لهذه النهاية: الشكل الأول هو ما يمكن أن نطلق عليه اسم "الصيف الدائم". وهو، باختصار، ارتفاع دائم لدرجات الحرارة في الغلاف الجوي. فكيف يمكن أن ترتفع درجة الحرارة ارتفاعًا دائمًا في الغلاف الجوي؟ إن تغيُّر بنية الغلاف الجوي، ومن ثَمَّ تعرُّض التوازن الحراري على الأرض للاختلال، سيفضي إلى انهيار حراري، تتبعه كارثة. أما استخدام الطائرات، وبصورة أعم، كلَّ أنظمة النقل بالسرعات فوق الصوتية، فسيؤدي إلى تسخين الغلاف الجوي حتمًا.
إن أخطر آلية لرفع درجة حرارة الغلاف الجوي هي آلية الدفيئة Greenhouse Effect. ويلعب هنا الغبار والهباب وغاز الفحم المتجمع بالقرب من سطح الأرض دور الزجاج. يسمح الزجاج (أو بدائله)، وفق هذا السيناريو، بمرور الأشعة الضوئية القادمة من الشمس. ولدى وصول هذه الأشعة إلى الطبقات الدنيا من الغلاف الجوي تُثار هذه الطبقات مطلِقةً الأشعة تحت الحمراء. إن الزجاج وغاز الفحم والغازات الملوِّثة الأخرى عاتمة جميعًا بالنسبة لهذه الأشعة؛ لذا فما يحدث في حالتنا أن هذه الأشعة لا تتسرب إلى الفضاء الكوني، بل تتجمع فوق سطح الأرض. ولما كانت الأشعة تحت الحمراء أشعة حرارية بالدرجة الأولى، فإن هذا الفعل سيكون بحق بداية صيف دائم.
مخطط يشرح آلية أثر الدفيئة
أقرِّب هذه الآلية إلى الأذهان بالتذكير بحالة أحدنا في أحد أيام الشتاء المشمسة، حيث يقف خلف الزجاج لينال قسطًا من الدفء. تزيد أيضًا في حرارة الجوِّ بشكل جزئي – ولكن مطَّرد – أنظمةُ التدفئة المركزية؛ إذ يصبح البناء ككل مصدرًا إشعاعيًّا، بينما لا يصل الضرر إلى هذا الحدِّ بإحراق الخشب لتدفئة البيوت – ولكن لم يبق هناك أيُّ خشب! فإذا ازداد عدد سكان قاطني المدن ازديادًا مذهلاً فسيصبح عدد سكان مدينة نيويورك، مثلاً، 50 مليونًا، بينما العدد المقابل لمدينة طوكيو سيكون 90 مليونًا. يقول الخبراء إن الحرارة المنبعثة من مساحة 30 ألف كيلومتر ستبلغ في العام 2000 نسبة 50% من حرارة الشمس شتاءً ونسبة 15% منها صيفًا. وسيؤثر هذا تأثيرًا جذريًّا، لا على المناخ المحلِّي للمدينة فقط، بل وعلى مناخ منطقة بأكملها، علمًا بأن ارتفاع وسطي في درجة الحرارة للأرض كلِّها بمقدار 3.5% سيهدد بحصول صيف دائم.
أما السيناريو الآخر فينجم عن المواد الملوِّثة العالقة في أعالي الغلاف الجوي. وهنا يكون الأمر على العكس؛ إذ تحجز هذه المواد قسمًا من الأشعة الحرارية القادمة من الشمس. ويترتب على ذلك هبوط مطِّرد في درجات الحرارة. تضع النشاطات الإنسانية الغلاف الجوي أمام مفارقة كبيرة: إذ إن هذه النشاطات تحقن الغلاف الجوي، في سوياته المختلفة، بالغبار والهباب والملوثات الأخرى. وكما تبيَّن، فإن زيادة هذه المواد في أعالي الغلاف الجوي تؤدي إلى خفض درجات الحرارة والتهيئة لعصر جليدي. أما زيادتها بالقرب من سطح الأرض، فتؤدي، على العكس، إلى ارتفاع مستمر في درجات الحرارة والدخول في صيف دائم.
وبعد، كيف ستكون النهاية: صيف دائم أم عصر جليدي؟ يتوقف الأمر على نتيجة سباق بين تراكم الملوِّثات في أعالي الغلاف الجوي وقرب سطح الأرض؛ إذ عندما يتجاوز أحد التراكمين نسبته، تبدأ النهاية المحتومة المرتبطة به.
ننتقل الآن إلى مفارقة جديدة تتعلق بإنقاص النشاطات الإنسانية لآزوت الغلاف الجوي؛ إذ إن صناعة الأمونيوم بدءًا من هذا الآزوت تخفض كمية الآزوت الغلاف الجوي، فتُخلُّ بتوازن هذا الغلاف. والكائنات الحية، بدورها، تُنقِص كمية الآزوت بتصنيعها مركبات معقدة؛ إلا أن هذا الإنقاص الأخير هو جزء من التوازن العميق المتغلغل في الحياة الطبيعية. ولكن الإنقاص الجديد هو الخَطِر؛ إذ إنه يخرج عن دورة الآزوت في الطبيعة، تلك الدورة التي صمَّمها التطور المشترك للبيئة والحياة على سطح الأرض خلال ملايين السنين.
يتميز كوكب الأرض بظروف بيئية وطبيعية متوسطة؛ ولم تتغير هذه الظروف خلال الأربعة آلاف مليون سنة من تاريخ الأرض. فالجذب الثقالي للأرض أخف بكثير من الجذب الثقالي في الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية، إلا أنه أكبر بكثير من الجذب الثقالي السائد في السحب الغبارية الكونية. وكذا شأن درجة الحرارة: فهي ليست بقدر درجات الحرارة في النجوم، ولا هي بالمستوى المتدنِّي للحرارة في الفضاء الكوني. وأخيرًا وليس آخرًا، فعمر الأرض أيضًا هو رقم متوسط: فهي أكثر شبابًا من المجرات، إلا أنها شديدة الهرم بالمقارنة مع بعض المصادر الراديوية النووية الكونية قصيرة العمر. لا يستقر ولا يستمر من الجسيمات الأولية الثقيلة، في ظلِّ هذه الظروف المتوسطة، إلا عدد ضئيل، كالبروتونات والإلكترونات والنيوترونات. يستطيع الجذب الثقالي أن يحافظ على كمية ثابتة من مادة الأرض، ولا تفلت إلا نسبة ضئيلة من ذرات الهيدروجين والهليوم من أعالي الغلاف الجوي، إضافة لما ترميه النشاطات الإنسانية من مواد أرضية في الفضاء الكوني على هيئة مسابر فضائية.
وفي سياق الحديث عن النشاطات الإنسانية، نذكر أنه يمكننا النظر إلى الكرة الأرضية على أنها مؤلَّفة من خمس كرات جزئية هي:
1. الكرة الصلبة، وفيها 99.87% من كتلة الأرض؛ و
2. الكرة السائلة، المتضمنة حوالى اثنين في العشرة آلاف من كتلة الأرض؛ و
3. الكرة الغازية، التي يصل الرقم المقابل الخاص بها إلى ثلث رقم السائلة؛ أما
4. الكرة الحية، فتستهلك جزءًا واحدًا من مئة ألف مليون جزء من كتلة الأرض؛ و
5. أخيرًا الكرة التكنولوجية التي تمثل ما حوَّله الإنسان من مواد طبيعية إلى أشكال صنعية؛ وتبلغ نسبة المواد المستخدمة فيها حوالى جزء واحد من مليون مليون جزء من كتلة الأرض.
يختلف التركيب الكيميائي لهذه الكرات، إلا أنها تشترك جميعًا بقاسم مشترك هو الأكسجين. فربع كتلة الكرة الصلبة هو من الأكسجين، وكذلك خمس الكرة الغازية، وربع الكرة الحية، وربع الكرة التكنولوجية، ومعظم الكرة السائلة. لا تتركز أهمية أية من الكرات فيما تحويه الكرة المعنية من مادة، بل في نوعية تلك المادة وسرعة تداولها مع الكرات الأخرى. لقد بلغت هذه السرعة حدودًا في عصرنا التكنولوجي توجِب التوقف وإعادة النظر والتأمل.
تشكِّل الكرة الحية المصدر الرئيسي للأكسجين. ولا عجب إذا عرفنا أن الكرة الحية تصنع كلَّ الأكسجين تقريبًا، عبر التفاعل اليخضوري (= الكلوروفيلي): إذ تؤثر أشعة الشمس في مركَّب الماء، فتفصل عنه الهيدروجين الذي ينضم إلى غاز الفحم لتشكيل الفورمالدهيد، بينما ينطلق غاز الأكسجين.
إن النباتات هي المنبع الرئيسي للأكسجين الضروري للكرات الخمس. وإذا تحدثنا عن العلاقة الوثيقة بين الكائنات الحية وبين الطبيعة، فعلينا أن نلاحظ أن النباتات تحلُّ في المرتبة الأولى في هذه العلاقة، بينما تبني الحيوانات علاقاتها مع الطبيعة من خلال وساطة النباتات. تساوي كتلة النباتات حوالى 1910 غ، بينما كتلة الحيوانات هي 1610 غ. وإن الإخلال بنسبة الكتلتين سيفضي إلى نتائج مأساوية بالنسبة لعالم الحيوان. لا يمكن تزويد الإنسان مباشرة بالغذاء من الكرات غير الحية؛ إذ يجب على النبات أن يمتص الطاقة أولاً من الطبيعة، ومن بعدُ ينقلهما للإنسان وكافة صنوف الحيوانات.
الغابة المطيرة رئة الأرض: "الأخضر هو القاعدة الأساسية للحياة."
لقد تطورتْ النباتات بحيث تؤمِّن امتصاصًا أعظميًّا لطاقة الشمس وطرحًا أعظميًّا مقابلاً للأكسجين؛ وينطبق ذلك حتى على الأشنيات في أعماق المحيطات. إن الأخضر هو القاعدة الأساسية للحياة. نضرب مثلاً على هذه الحقائق التقاط كلِّ إشعاعات الشمس الساقطة على الغابات، حيث تستظل النباتات بعضها ببعض على درجات تصل حتى الخمس. والهدف ألا يُفلِت شعاع الشمس؛ إذ إن ما يفلت من نباتات درجة معينة تلتقطه نباتات الدرجة الأدنى؛ والهدف النهائي هو طرح أكبر كمية ممكنة من الأكسجين باستخدام الطاقة الشمسية في التفاعل اليخضوري.
تسيء الفوضى الحرارية المنبعثة من الكرة التكنولوجية إلى نواظم عمل النباتات التي تطورت عبر ملايين السنين. وتتأثر عاكِسية الأرض تأثُّرًا جزئيًّا وكليًّا عند قطع الأشجار والغابات؛ ويعني ذلك فروقًا كبيرة بين درجات الحرارة في النهار وفي الليل، أي قربًا من مناخ الصحراء. أضف إلى ذلك الفعل الفيزيائي المباشر على الأرض، المتمثل بهجوم الصحراء إثر اجتثاث الأشجار الصادَّة له. نحن هنا، مثلاً، نقطع أشجار غوطتنا، وكان حريًّا بنا الحفاظ عليها، وملء مناطق أخرى غير مشجَّرة بالأشجار. كذلك نحن ننشئ بعض المصانع الملوِّثة في مناطق بعد أن نجتثَّ الأشجار منها، كمصانع الإسمنت في مزارع الزيتون؛ ويقوم بعضنا أيضًا بإحراق الأشجار لاستبدال مناطق سياحية بها.
علينا أن نتذكر أن الحياة تقوم على توازن دقيق بين شقيها الرئيسين: الحيوان والنبات. وإن الحيوانات تعيش على نفايات الحياة النباتية التي يشكِّل الأكسجين أبرزها؛ لا بل قد أصبح من المؤكد اليوم أن الحياة الحيوانية لم تنشأ على كوكبنا إلا بعد أنْ وفَّرتْ الحياة النباتية فائضًا كبيرًا من الأكسجين الضروري لتلك النشأة، وأنْ أخَذَ التوازنُ المذكور طريقه إلى الوجود عبر معادلة دقيقة ذات طرفين: غاز الفحم والأكسجين. فالنباتات تستهلك الأول وتطرح الثاني؛ وتفعل الحيوانات عكس ذلك. والسؤال الآن هو التالي: هل فكَّر الذين يتخلصون من الأشجار، بقطعها أو حرقها، في مصدر بديل للأكسجين؟ وهل تأملوا قليلاً، قبل إقرار خصومتهم مع الأشجار، في حقيقة أن حياة غيرهم وحياتهم منوطة بما تقدِّمه تلك الأشجار من أكسجين؟
قامت مجموعة من الشركات بشقِّ طريق عبر غابات الأمازون. لقد ترتَّب على ذلك إنقاص لا يستهان به في إجمالي كمية الأكسجين في الغلاف الجوي. والطريف أن تنفيذ ذلك الطريق قد تعثر مرارًا؛ وكان السبب على الدوام إقدام الأقوام البدائية في تلك الغابات على أكل الطبوغرافيين والمهندسين العاملين في المشروع! وقد يرى بعضهم في ذلك تصرفًا وحشيًّا وهمجيًّا، ولكنه ليس أكثر بربرية، على أية حال، من تصنيع الأسلحة النووية وأسلحة الفتك بالأعصاب والغازات الخانقة! أفلا يمكن أن نقيِّم تصرف الأقوام البدائية في الأمازون على أنه تعبير عن دفاع الطبيعة، ممثَّلة بالغلاف الحي، عن نفسها حيال ذلك الإيذاء العميق؟
وإذا كنَّا في معرض الحديث عن النباتات، فيجب أن نتطرق إلى مجمل مزاياها. فالنباتات هي أجود أنواع المضخات، لأنها تحقق استقرارًا للمياه الجوفية بتبخير الفائض من تلك المياه وحقنه في الغيوم، لنقله إلى مناطق أخرى على شكل هطول مطري. كما تمنع النباتات تبخُّر المياهَ السطحية في نفس الوقت. لقد انتشرت النباتات وأتمَّتْ توزيعها بطريقة التجربة والخطأ، فأصبحت بذلك جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة والحياة. إن اجتثاثها يعني، وفق هذا المفهوم، القضاء على الطبيعة والحياة. تقود النباتات بحق الدورات الرئيسية في الطبيعة. إن المناطق الغنية بالنباتات قلما تصاب بالجفاف؛ فأوراق النباتات مشبعة دائمًا بالرطوبة لأن التبخر يعوَّض بضخ الماء عبر الجذور. والشرط هنا أن يكون المخزون الجوفي بعيدًا عن الاستنزاف المصطنع لأن النباتات ستتراجع في هذه الحالة وتعجز عن أداء مهامها.
وتتجلَّى أهمية أوراق النباتات في التقاطها ذرات الفحم الفائضة، وكذلك الأشعة الزائدة في الغلاف الجوي؛ إلا أنها، مرة أخرى، تتراجع أمام الازدياد السرطاني لذرات الفحم بسبب النشاط التكنولوجي المعاصر. وتحوِّل النباتات الصخور إلى تربة زراعية بتفتيتها؛ وهي تزود التربة بالطاقة الحرة الضرورية لاستمرارها كتربة. وحتى في حال موتها، تُغْني النباتات التربة بالمواد الحيوية. هل تستطيع الهياكل البيتونية البديلة فعل ذلك؟ طبعًا لا. وعلينا، وعلى الأجيال القادمة، انتظار النتائج السيئة لإشادة تلك الهياكل.
تسعى الرياح إلى حمل الرطوبة الناجمة عن التبخُّر من الأوراق والتربة. وتعيق الأشجار مرور تيارات الهواء السريعة، وتجزِّئها إلى دوامات أصغرية، وتحمي المزروعات من الرياح الساخنة. إن الغابات النامية على منحدرات الجبال والروابي والتلال لا تعمل على حجز سيل المياه على السطح فقط؛ بل إن شبكة جذور الأشجار العميقة والمتفرعة تحجز كلَّ سيل المياه تقريبًا. ولا تفقد نباتات الحقول هذا الماء لأنه يتبخَّر من الغابات تدريجيًّا، ويرطِّب طبقات الهواء المتاخمة، وبذلك يحمي المزروعات. إن الغابات، بالأخص على منحدرات الجبال والتلال وعلى ضفاف الأنهار، تحول دون تعرية التربة وتحمي الأنهار من التلوث، كما تفيد كمأوى للطيور التي تقضي على الحشرات الضارة .
إن الأشجار والشجيرات والأزهار لا تزين حياتنا فقط، بل وتنجز عملاً نافعًا هائلاً: فهي ترشِّح الهواء، وتجمع الغبار على الأوراق، وتفرز موادًا تقتل الميكروبات الضارة، وتلطِّف نظام درجة الحرارة في المدينة، وتُخمِد الضجيج. إن الهكتار الواحد من حديقة أو ميدان أخضر يمتص خلال ساعة واحدة مقدارًا من غاز ثاني أكسيد الفحم يعادل ما يزفره 200 شخص خلال هذه الساعة، ويستبدل بهذا الغاز السام الأكسجين النقي.
يتجدَّد الأكسجين، بسبب النشاط النباتي، في الكرات الأربع: الصلبة والمائية والغازية والحية مرة كلَّ 3800 سنة، باستثناء الكرة التكنولوجية التي لم تدخل الحلبة إلا منذ قرن تقريبًا. ولسنا بصدد تقويم ما قد يترتب على ذلك من انخفاض خطير في المخزون الغذائي، بل سنحاول تسليط الأضواء على تناقص الأكسجين بسبب ذلك. وعلينا ألا ننسى هنا الانخفاض الذي تسبِّبه الكرة التكنولوجية: فالسيارات ومصانع المواد الاستهلاكية والطائرات والتدخين والتلوث الكيميائي والنووي والمصانع الأخرى تؤدي جميعًا إلى نقص في الأكسجين. وتدل الحسابات الأولية على أنه بعد حوالى 165 سنة، يمكن أن تتقلَّص نسبة الأكسجين الطليق في الجوِّ بحدود 24% وزنًا، أي تصل إلى الحدِّ الحرج. إن الوضع خطير، لكن ليس بدون مخرج. يدور جدل كبير في عالم اليوم حول حقيقة انخفاض كمية الأكسجين. يقول بعضهم إن الأكسجين لن ينفد قبل 50000 سنة، وأن الإنسان سيبحث إذ ذاك عن مخرج من الأزمة. يتبنى هذا الرأي معظم الاستهلاكيين الذين يتظلَّلون بفلسفة الحياة للحياة، بينما يجنح آخرون لتصوير أن الأزمة أقرب من ذلك بكثير، ويؤيدون وجهة نظرهم بحقيقة أن التطور التكنولوجي هو تطور مركَّب يتحقق بقفزات كبيرة تفصل بينها فترات زمنية قصيرة جدًّا؛ وبالتالي، فقد يواجه العالم أزمة نفاد الأكسجين بعد 500 سنة فقط. فهل نستطيع قبول مثل هذا الجدل أو تسويغه؟ كلا! إذ علينا، أولاً وقبل كلِّ شيء، أن نأخذ بعين الاعتبار الوجود الإنساني، والحياة بصورة عامة، لا أن نطرح مسألة استمرار الوجود الإنساني والحياة على بساط البحث.
نتوقف هنا عند نوع فريد من التلوث، لأنه، إذا حدث، فلا شك سيكون الأخير في تاريخ الحضارة الإنسانية: إنه "الشتاء النووي" Nuclear Winter. إن استخدام الأسلحة النووية سيملأ أعالي الغلاف الجوي بسُحُب من الذرات المعلقة القاتمة التي ستُدخِل الأرض في عصر جليدي، تمامًا كما تفعل الغازات الملوِّثة، مع فارق أن هذه الأخيرة ستفعل فعلها خلال عشرات السنين، بينما تحقق الأسلحة النووية ذلك في عدة أشهر. أما الآثار الإشعاعية للحرب النووية فهي آثار فتاكة، تستوجب دراستُها إفراد أبحاث خاصة.
يتحدث بعض علماء اليوم عن مصطلح جديد هو "الطوارئ البيئية" Emergency Ecology، ويقصدون فرعًا جديدًا من الدراسات يهدف إلى الاستدراك والتطويق السريعين لما قد يحدث نتيجة تلوث مفاجئ، كتسرُّب مادة سامة أو خطرة من معمل أو مُفاعِل، أو تحوُّل مساحات كبيرة من الأرض برمَّتها إلى مناطق محظورة بيئيًّا بسبب ارتفاع نسب المواد الملوِّثة فيها. لماذا لا يفكر هؤلاء العلماء بطريقة لوقف دورة التغذية الراجعة المكوَّنة من الحلقات التالية:
خلق الحاجات الوهمية ¥ تطوير التكنولوجيا لتلبيتها ¥ تلويث الطبيعة نتيجة الإنتاج المتزايد ¥ نقصان الطاقة المتوفرة ¥ البحث عن بدائل للطاقة ¥ إقامة منشآت طاقية جديدة خطرة ¥ التسويق البضائعي للمنتجات الجديدة ¥ تحديد الآفاق الإنسانية بغمرها في محيطات مستحدثة من الاستهلاك ¥ سبر ردَّات الفعل الاستهلاكية ¥ تراكم الخبرات الصناعية الاستهلاكية
مثال: بماذا يفيد تطوير الأصبغة الكيميائية الجديدة الهادفة لتلوين الثياب؟ تحويل الأنهار إلى بحار سوداء عاتمة، أو زيادة عدد الخيارات المحيِّرة بين الشباب، لا بل والكهول! وأية خيارات تافهة هي تلك التي لا تدفع صاحبها إلى سوية أرفع! وهل يمكن أن يحدث أيُّ تغيُّر كيفي لدى الإنسان لمجرَّد أنه بدَّل لون ثيابه بلون آخر و/أو طراز أحدث؟! أذكر هنا مثلاً شعبيًّا قديمًا يقول: "المرء تحت طيِّ لسانه، لا طيلسانه." إنه خيار بين أن نسمِّم مياه العالم ونفسد عذوبتها كي نستطيع الظهور بحلل أبهى؛ أو أن نكتفي بما هو ضروري، فنترك للأجيال التالية بيتًا نظيفًا قابلاً للحياة فيه، هو أرضنا.
كيف تؤذي المواد الملوِّثة الإنسان؟
- تسبِّب كلُّ المواد الكيميائية التهاب الجلد التحسُّسي. وفي مقدمة هذه المسبِّبات: العطور، مواد التجميل، الإسمنت، الألبسة المحوكة من مواد صنعية، إلخ.
- أما أكسيد الفحم فهو مادة سامة؛ إذ يتحد مع خضاب الدم، مسبِّبًا نقصًا في أكسجين الجسم بمنعه الأكسجين من الالتحام بالخضاب. يترافق ذلك مع أعراض مزعجة، كالصداع والدوار وطنين الأذنين وضيق التنفس. وقد بات من المؤكد اليوم أن لأكسيد الفحم علاقة وثيقة بأمراض القلب.
- تفضي زيادة ثاني أكسيد الآزوت، بالمقابل، إلى انسداد القصيبات الهوائية وإنقاص مناعة الرئة وتعرُّضها للإنتانات؛ وتصل الرئة نتيجة ذلك إلى مرحلة الكهولة باكرًا.
- وماذا عن أكسيد الكبريت؟ إنه غاز مخرِّش ينحل في الماء؛ لذا يصيب الطرق التنفسية العلوية (حنجرة، رغامى، قصبات)، فيقبِّضها، محدِثًا فيها التهابات متعددة.
- تؤذي الجزيئات الصغيرة الطرق التنفسية أيضًا؛ وبعضها مُسَرْطِن، كالأسبستوس.
- تأكد العلماء مؤخرًا من التأثير السيئ للرصاص على الأطفال، وأثره التراكمي السيئ على الكبار.
- يؤدي تلوث الهواء، بصورة عامة، إلى الإصابة بالربو والتهاب القصبات المزمن وسرطان الرئة. وتزداد هذه الأمراض خطورة عند المدخِّنين. ولا شكَّ أن التدخين هو شكل فعَّال من أشكال التلوث. لقد ثبتتْ ثبوتًا نهائيًّا علاقة التدخين بسرطان الرئة وسرطان الجنب؛ كما أن التدخين هو أحد الأسباب الرئيسية لتصلب الشرايين واحتشاء العضلة القلبية.
لقد بلغت المواد الملوثة أعمق مكوِّنات البيولوجيا. فمثلاً وُجِدَ مركب الـد.د.ت. في حليب الأمهات وفي كبد طائر البطريق. ووصلت المواد شديدة السمية كلَّ أحواض المياه الجوفية في "وادي السيليكون" في أمريكا، حيث يصنعون أحدث الرقائق الإلكترونية. لقد كان لهذا التسرب أبعادًا مأساوية؛ إذ حدثت العديد من الولادات المشوهة. وما هو أدهى من ذلك أن أحدًا ما لا يستطيع نفي احتمال أن ينقل المولودون الأصحاء التشوهات الجنينية إلى أجيال تالية. وهكذا فقد وصلت الملوِّثات القلب الحقيقي للحياة، ألا وهو جهاز الوراثة.
يصنف الدارسون المعاصرون شكلاً هامًا من أشكال التلوث هو الضجيج. يصدر الضجيج عن السيارات، الطائرات، المصانع وغيرها. وإن العويل والصرير والدق والصفير والهدير تؤثر تأثيرًا ضارًّا على جسم الإنسان، وترهق الجهاز العصبي إرهاقًا مفرطًا؛ ويمكن لها أن تسبِّب مختلف الأمراض. ويمكن حتى قتل الإنسان بواسطة الضجيج. وقد أثبت علم السمعيات، الذي يبحث دراسة تأثير الضجيج على جسم الإنسان، أن للضجيج آثارًا تراكمية. فإن بعض مزعجات الضجيج تتجمع من يوم لآخر في الجسم، وتؤدي في نهاية الأمر إلى الإخلال بالوظائف الفسيولوجية، وفي بعض الأحيان، إلى اعتلال الصحة وسوء المقدرة على العمل. وبرهن العلماء على أن المدينة التي يعمُّها الضجيج تقصِّر حياة الإنسان عدة أعوام. إننا نتحول جميعًا، شيئًا فشيئًا، إلى مرضى مصابين بضعف الأعصاب. وإن التأثير التراكمي للضجيج يرهق الجهاز العصبي، وبالدرجة الأولى مقدرته على القيام بالعمليات الكبحية الوقائية. وقد صرنا نتضايق وننزعج من الضجيج الخافت بدرجة أكبر فأكبر؛ وإذا ما استمر الأمر على هذا المنوال سنستيقظ مذعورين لا عندما تطقطق دراجة نارية بشكل يصمُّ الآذان وحسب، بل حتى عندما تغرد العصافير!
يشعر أحدنا، في كثير من الأحيان، أن رأسه يكاد ينفطر بسبب الضجيج. ومما يبعث على الأسف الشديد أنه توجد غالبًا مصادر للضجيج لا تولدها الأجهزة بالغة التعقيد التي لا يضمن أحد عدم صدور ضجيج منها، بل نولدها نحن بأنفسنا! ألم يحدث أن شغَّل أحدنا التلفزيون أو الراديو أو آلة التسجيل بأعلى صوت ليلاً؟ أولم يغلق الباب بشكل يجعل صوت الإغلاق مسموعًا في الشارع المجاور؟ أولم يشغِّل السيارة وسط هدوء الليل، أو يدخل فناء البيت بدراجة نارية مطلقًا الهدير والعويل؟ وأخيرًا، ألم يحدث أن استفاق أحدنا مذعورًا لأن أبناء الحي يجرِّبون مكابح سيارات آبائهم، ولاسيما في ساعات بعد الظهر، عندما يخلد هؤلاء الآباء إلى الراحة؟
لقد أظهرت التجارب في المختبرات أن الأصوات الناجمة عن حفيف أوراق الأشجار تبعث على الهدوء في النفس؛ في حين أن بعض الأصوات الأخرى تؤذي الجهاز العصبي وتُفضي إلى أمراض القلب، كتحليق الطائرات النفاثة أو تشغيل الضواغط الهوائية لتكسير الطرقات والأرصفة وغيرها. إذا أراد أحدنا تجربة علمية على الضجيج، فما عليه إلا الانتظار لحظة انقطاع التيار الكهربائي في منطقة ما، ومراقبة ما يحدث في تلك اللحظة. سيلاحظ هبوطًا مفاجئًا للهدوء؛ إذ ستتوقف كلُّ البرادات والغسالات وغيرها من الأجهزة، بل وسينتفي طنين الأسلاك الحاملة للتيار الكهربائي. وقد دلَّتْ الدراسات الخاصة بالضجيج أن الناس الذين يعملون في الغابات وعلى ضفاف الأنهار أو في البحر يتعرَّضون بدرجة أقل من أبناء المدن للإصابة بالأمراض العصبية وأمراض القلب والأوعية الدموية. وبالإضافة إلى العوامل الأساسية، تلعب دورًا كبيرًا في ذلك، كما يبدو، أصواتُ الطبيعة. لقد ثبت أن لحفيف أوراق الشجر وتغريد الطيور وخرير مياه الجداول أو الشلالات تأثيرًا علاجيًّا صحيًّا على الجهاز العصبي ووظائف غدد الإفراز الداخلي. ويزداد نشاط العضلات بتأثير أصوات الشلالات. وهناك قانون متميز طريف: إن الموسيقى التي لها الفعالية الأكبر من وجهة النظر العلاجية إنما تحاكي في أغلب الأحيان أصوات الطبيعة. نذكر منها ما قاله تشايكوفسكي: "إنني نفسي أصبحت صوتًا لدى سماعي إنشاد الغابة." إن الموسيقى تكتسب في الطبيعة قوتها وسحرها. ويؤثر الضجيج على العمل والإبداع، فينخفض معدل الإنتاج؛ وبسببه يزداد احتمال الخطأ.
يذهب بعض العلماء إلى التصور بأن الكون سيتفكَّك في النهاية، بحيث تنطلق أجزاؤه متباعدة بعضها عن بعض؛ وبشكل أدق: إن الكون سيتوجَّه إلى الفوضى أكثر وأكثر. لكن الحياة، ممثلة بنموذجها الأول الإنسان، تناضل نضالاً معاكسًا، أي تسعى لإحلال النظام محلَّ الفوضى. وقد تجلَّى هذا النضال، في المئة سنة الأخيرة، بظهور الصناعة. ولكن هل لازالت الصناعة المعاصرة، بطابعها الاستهلاكي، تساهم في بناء النظام، خاصة أنها تحول الفلزات المنتشرة عشوائيًّا إلى بنى منتظمة؟ تقوم الصناعة باستخلاص المواد الكيميائية من الفلزات، ومن بعدُ فصل المعادن الضرورية عن هذه المواد. إن هذا يعني إنقاص الفوضى فعلاً. إلا أن الاتجاه العام للفوضى في الكون سيفرض بذلَ طاقة كبيرة لإحلال النظام المشار إليه. والطاقة المبذولة ستُدخِل عملية التنظيم مرتبةً، لتخرج بعدئذٍ خاليةً من أيِّ ترتيب. وبذا تصبُّ في قناة الفوضى الكونية.
يبقى على الإنسان أن يقرِّر حدَّ الإنتاج البضائعي الذي، إذا تمَّ تجاوزُه، ازدادت فوضى الطاقة المبذولة بالمقارنة مع نظام المادة المحوَّلة. إن ازدياد الفوضى على حساب النظام هو سمة الاستهلاك المعاصر. إن للأمر أبعاده الإنسانية؛ إذ يفقد الإنسان هويته، من حيث كونه يجسِّد النظام في مقابل الفوضى الكونية. تتمثل الطاقة عديمة الترتيب، الخارجة من عملية التنظيم، بفعل النفايات والبقايا والفضلات. وقد صار ذلك الفعل هو المشكلة اليومية في عصرنا. تضاف هذه النفايات والبقايا والفضلات إلى قائمة المواد التي تعزِّز الفوضى الكونية وتعمِّقها. نجد في هذه القائمة حوادث وتفاعلات أخرى. فهناك الاحتراق أو الأكسدة، سواء أكان احتراقًا طبيعيًّا أو صنعيًّا؛ وهناك الحت الطبيعي؛ كذلك نجد في هذه القائمة التفاعلات الضرورية لاستخلاص الطاقة من الطعام والوقود. إن التفاعلات الأخيرة هي تفاعلات متأصِّلة في صنوف الحياة كافة. وقد استطاع الإنسان إبداع طرق عدة تستهدف تحويل الفضلات إلى أشكال مفيدة.
لم نُشِرْ هنا إلى حجم المشكلة، واكتفينا بالتنويه إلى إمكانية تحويل الفضلات. ولكن ألا يمكن أن تتعاظم المشكلة، فتتجاوز إذ ذاك الفوضى المترتِّبة عن التفاعل النظامَ المبني من ذلك التفاعل؟ الإجابة ببساطة: نعم. يساهم الإنسان المعاصر في الفوضى الكونية، ويزيد استهلاك الفرد في البلدان المتقدمة زيادة قياسية. يجب علينا أن نستغل الطبيعة استغلالاً رشيدًا، فلا نأخذ منها إلا ما نحتاج، ونعيد ما يمكن إعادته، ونبلغ مستوى أفضل نوعيًّا لجمال الطبيعة وثرواتها المستعادة، مثل الغابات وعالم الحيوان والنباتات والتضاريس الطبيعية. إننا أمام خيار كبير: المأساة أو الانسجام!
لقد اعتاد الإنسان على اعتبار كوكبه غنيًّا جدًّا وكنزًا لا ينضب مُعينه، أعطى وسيعطي إلى الأبد الكمية المطلوبة من الطاقة والمواد والطعام. ولم يولد هذا الوهم اليوم أو يوم أمس؛ لكن العالم المحيط كان يتحمل السلوك البشري الأرعن عندما كانت البشرية غير مجهزة بالوسائل التكنيكية القوية؛ وبذلك ولدت ورسخت هذا التضليل ورسَّخته. فباستعمال الفأس والمعول والمحراث الخشبي يمكن حرث قطعة صغيرة من الأرض وقطع مائة أو مائتين من الأشجار وسكب عدة دلاء من الفضلات. لم تكن الطبيعة لتلقي بالاً لمثل لدغ البعوض هذا! لكن حلَّتْ أوقات أخرى، ازداد معها تعداد البشر، وتجهزوا بمعدات قوية جدًّا، وصاروا قادرين الآن على أن يأخذوا من الطبيعة كميات هائلة من المواد العضوية وغير العضوية، والتأثير على الغابات والمياه والتربة في الكرة الأرضية كلِّها.
لم يعد من الممكن اعتبار عملية إعادة تكوين الموارد الطبيعية مجرد إعادة عملية تكوين ذاتي. فالآن يمكن مقارنة تأثير الإنسان على البيئة لفترة قصيرة بآثار العمليات الجيولوجية والجيوكيميائية وغيرها من العمليات على نطاق العالم التي جرت خلال ملايين السنين. يبدو التطور المعاصر للإنسان وكأنه يمزِّق مبدأ أساسيًّا في الحياة، ألا وهو مبدأ الحفاظ على البقاء. فمثلاً تستجيب صنوف الحيوانات كافة لهذا المبدأ: فإذا ازداد عددُها هاجرتْ قبل أن يبدأ الغذاء بالتناقص. أما الإنسان، فهو يقلِّص مساحات الأراضي المزروعة، ويصنع الأسلحة النووية بهدف تدمير الحياة ككل. أُجرِيَتْ التجارب على الحشرات في المختبر بإنقاص مخزون غذائها، فحاولت الهجرة؛ وعندما مُنِعَتْ من ذلك قامت بالحدِّ من نسلها عفويًّا.
لقد وضع العلم اليوم يده على حقيقة هامة: إن كلَّ ما يجري من أحداث في الكون، بما في ذلك تظاهرات الحياة المختلفة، إنما هو انعكاس الحركة. هي حركة موجودة واحدة، لها وجهان مختلفان: المادة والطاقة. كان الطريق إلى كشف هذه الحقيقة طويلاً، واعتمد أساسًا صناعة النماذج. نذكر في هذا السياق أن الحياة هي نموذج مثالي للمادة والطاقة. تستند صناعة النماذج، بدورها، إلى توصيف جميع محتويات الطبيعة بلغة بسيطة واحدة متخصِّصة، هي لغة المعلومات أو المعلوماتية. وهكذا لم تحدِّد الحياة وجودها بالاقتصار على نتائج القِران الطويل العهد بين المادة والطاقة؛ بل إن الحياة هي، في واقع الأمر، التتويج الحتمي لحركة المعلومات الخاصة بذلك القِران وتطورها، وتركيزها، من ثَمَّ، في شكل قاعدة معلوماتية واسعة تُعرَف باللغة التكنيكية باسم "المعلومات الجينية". ويرتبط بكلِّ مخزونٍ معلوماتي رقمان يعبِّران عمَّا يحتوي ذلك المخزون من معلومات وعن جودة تلك المعلومات. لا تبرز المعلومات وتأخذ دورها إلا في الكرة الحية. ويستجيب الكائن الحي للمحتوى المعلوماتي للحادثة، وليس لمظاهر الحادثة، بينما يغيِّر التلوث من المحتوى المعلوماتي ويشوِّهه؛ فتشوَّه الاستجابةُ، بالتالي، ويتغير الكائن الحي إلى الأسوأ.
يتجلَّى التغير الأخير بإفساد علاقات التعاضد القائمة بين الكائنات الحية منذ ملايين السنين. لقد تميزت الحياة الأولى بكمٍّ معلوماتي منخفض وجودة معلوماتية عالية. وإذ كان على الحياة أن تستمر، فقد وَجَبَ البحث عن طرق أكثر أمانة، ليس في نقل الكمِّ المعلوماتي وحسب، بل والجودة المعلوماتية أيضًا؛ فكان التكاثر اللاجنسي، ثم التكاثر الجنسي باشتراك كائنين حيين. ولا ندري إن كان بمقدور الحياة أن تبدع أسلوبًا آخر من التكاثر، ربما باشتراك ثلاثة كائنات حية مثلاً. استطاعت الحياة، بإبداعاتها هذه، أن تصل إلى كائن متقدِّم هو الإنسان.
ووَصْفُ الإنسان بـ"التقدم" هنا له ما يبرِّره؛ إذ إن الكمَّ المعلوماتي في مخِّ كلِّ إنسان أكبر بكثير من الكمِّ المعلوماتي المتوفر في الكون الفيزيائي كلِّه. تحقَّقَ هذا التراكم المعلوماتي على مراحل وقفزات، وبرزتْ أولى أشكال الحياة الفاعلة عندما أتى إلى الوجود كائن حيٌّ يفوق بمعلوماته الكون الفيزيائي من حوله برمَّته؛ وانتهت بولادته المرحلة الأولى، أي مرحلة تصنيع الحياة. بدأت بعد ذلك المرحلة الثانية، أي مرحلة النقل الأمين للكمِّ المعلوماتي والجودة المعلوماتية من أجيال متقدمة إلى أجيال لاحقة من الكائنات الحية. وتُوِّجَتْ المرحلة، كما ذكرنا، بابتكار التكاثر الجنسي. وبعد هذا الابتكار دخلت الحياة في حارات ضيقة ومتاهات طويلة، بحثًا عن خزانات معلوماتية ذات مواصفات أعلى. ونتيجة ذلك البحث التقت الحياة خزانًا معلوماتيًّا متميزًا هو المخ الإنساني.
نواجه الآن المرحلة الثالثة من تطور الحياة. فقد أقدم التطور الصناعي، في العقدين الأخيرين، على إسقاط معيار الجودة المعلوماتية الذي تبنَّتْه الحياة عبر ملايين السنين من تطورها، مكتفيًا بالكمِّ وحسب. لقد اتَّحد الصناعيون على مواصفات غريبة، منها، أن تبلى صناعاتُهم بعد فترة قصيرة، بهدف الحفاظ على استمرارية إنتاجهم، بينما خاضت الحياة بعفوية، عبر ملايين السنين، أقسى معاركها بغية تحقيق مبدأ مختلف تمامًا، هو النقل الأمين للمعلومات الأجْوَد. إذا صحَّتْ الفرضية القائلة إن للحياة دورتين، تصعد عبر إحداها وتهبط عبر الأخرى، فعند ذلك يكون ما يفعله الصناعيون مبرَّرًا.
يرتبط الاستهلاك بالخواء النفسي والروحي؛ أما النظام فيقترن بتركيز المعلومات الجيدة وازديادها. إن الخواء ليس خواءً بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هو تخزين للمعلومات السيئة غير المفيدة. يتطلَّب تجميع المعلومات الجيدة نوعًا من التركيز والصفاء، في حين يلغي الاستهلاك التركيز ويشوش الصفاء؛ وبهذا يُفتقَد العامل الأساسي في التفريق بين الكون الفيزيائي وبين الحياة. إن الفوضى الكونية لن تجد في هذه الحالة ما يعيقها عن الانتشار. ولكن ما عسانا فاعلين بالإرث المعلوماتي الهائل الذي جمعتْه الحياة لنا؟ يجب أن نعود إلى الضروريات، وأن نتحسَّس مسؤوليتنا الأدبية تجاه الكون؛ إذ علينا أن ننقذ النشاط المعلوماتي من الابتذال الاستهلاكي المعاصر.
لقد تمخض التاريخ الأول للحضارة عن قيم أخلاقية محددة، كانت المطمح لغالبية الحركات الاجتماعية. دعونا نتأمل بعض هذه القيم، ثم نقارن ونقابل.
التقشف: هو أن لا يأخذ الإنسان إلا ما يحتاجه في إطار المحافظة على حياته وحسب.
الصدق: هو أن ننقل الحقيقة بشكلها الاجتماعي والذاتي، سواء من خلال القول، وعلى الأخص من خلال العمل.
الجمال: أن نعي أواصر القربى مع الطبيعة ونتفهَّمها، وأن نستكشف الصيغ المحكمة لتلك الأواصر في شكل أعمال فنية متقدمة ومعاناة جمالية أصيلة تمامًا، كما نستكشف علاقات أجزاء الطبيعة بعضها ببعض، ونضعها في معادلات رياضية.
ولمفهوم "الجمال" جانب خطير آخر أشبه بالمتع الحسية التي تقود للحفاظ على الحياة الفردية لكلٍّ منا. مثلاً: متعة التذوق التي لولاها لما تناول أيٌّ منا الطعام، ولما استمرت الحياة. وإذا كان للمتعة الجنسية منظورًا ذرائعيًّا ضيقًا وقريبًا، يتلخَّص في استمرار حياة الفرد ضمن فترة زمنية قصيرة، فإن للمتع الجمالية منظورًا استراتيجيًّا بعيدًا يرمي إلى الحفاظ على الحياة كظاهرة كونية فريدة. ويرتِّب ذلك الحفاظُ على الشكل الأصيل للمعاناة الجمالية وتطويرها استكشافَ مجاهل أكبر من تفاصيل العلاقة بين الطبيعة والإنسان، دون أيِّ تشويه قد يؤدي إلى طَمْسِ تلك المعالم، تمامًا كما في الكشوف العلمية. فأية إضافة خارجية ومفتعلة إلى التجربة ستغطي على الفور العلاقة الكامنة التي سعى الباحث، من خلال تجربته، لأن يضع اليد عليها. إن خطوط التغذية الراجعة feedback بين الطبيعة والإنسان، التي تمثل المعاناةُ الجمالية لها الكاشفَ المتطور أبدًا لتفاصيلها، مهددةٌ اليوم بالانفصام نتيجة طلاء التلوث الذي بدأ يغلِّفها؛ وقد بات لهذا الطلاء شكلان: بيئي، من جهة، وروحي فكري، من جهة أخرى.
لقد بدأت الوظيفة الجمالية بالأفول في عصر التلوث. ويؤيد ذلك توقُّف إنتاج الأعمال الموسيقية العظيمة في عصرنا، لأن المعاناة الجمالية أُفسِدتْ. فبدلاً من استلهام الطبيعة أصبحنا نستلهم صورها المعلَّقة في منازلنا. وإذا ذهبنا إلى بعض بقايا الطبيعة، فعلنا ذلك بشكل آلي مفصول عن الأسلوب الأساسي لتذوق الجماليات.
وقد ساعد في تشويه المعاناة الجمالية اضمحلال القيم الأخرى واستبدال قيم أخرى بها. مثلاً استُبدِل بالصدق عدمُ قول الحقيقة عن ثمن البضاعة؛ ومن بعدُ عدم قول الحقيقة فيما يتعلق بمغزى استعمال هذه البضاعة وضرورتها؛ وأخيرًا التغرير والدفع إلى شراء أية بضاعة واستعمال. تقوم الكيميائيات الملوِّثة بفعل مشابه في قطاع الجماليات؛ إذ تتمكَّن من عدم قول الحقيقة لدى التصنيف الجمالي لكلِّ ما هو موجود. وهكذا تستطيع الكيميائيات أن تبهرنا بأيِّ إنسان، لأن الكيميائيات تستطيع أن تؤمن أشكالاً لامتناهية العدد من الملابس الزاهية، وآلافًا من الطلاءات المختلفة التي تستطيع إخفاء العيوب النفسية، وتغطية الثغرات الفكرية خلف قناع الشكل آني الإبهار. من هذا المنظور، نجد صعوبة بالغة في الحكم على جمال المرأة في عصرنا لأن آلاف المشتقات البترولية، المعبأة بأشكال متمايزة، تحول دون قراءة مدى ما تتصف به امرأةٌ معينة من جمال داخلي. وعلى العكس، لا تتجمَّل المرأة الإفريقية إلا بالودع، والقطع الخشبية الصغيرة الملتقطة من جوانب الأشجار، والأصبغة الطبيعية غير الكيميائية، كالحنة. إن هذه الطريقة في التجميل لا تقطع الطريق على فهم ما قد تتمتَّع به هذه المرأة من طيبة وتباسُط. يرتبط التلوث، إذن، مع تحلُّل القيم. وهذا ما يمكن أن نسمِّيه بالتلوث الفكري والروحي.
لقد بقي الكتابُ الناقلَ الأمينَ والصادقَ لمنجزات الفكر البشري؛ ووصلتْ بعض الكتب حدَّ القدسية. أما اليوم فقد أسَّستْ بعض الشركات في عصرنا لإنتاج أغلفة الكتب المشهورة من البلاستيك! أذكِّر بالأذيات التي يسببها البلاستيك للطبيعة؛ ولكننا هنا بصدد التلوث الفكري والروحي. لذا أستطرد فأقول: إن هذه المنتجات هي مجرد أغلفة دون كتب داخلها! وهكذا فبإمكان أيِّ إنسان اقتناء أغلفة أهمِّ المؤلَّفات العالمية ورصفها في مكتبة منزله. وإذا أحبَّ معرفة بعض المعلومات عن المحتويات الغائبة لتلك الأغلفة بقصد المباهاة المعلوماتية، فهناك بعض أشرطة الفيديو التي تؤمِّن له موجزًا مشوهًا عن بعض ما يرغب فيه؛ وتفعل هذه الأشرطة في قطاع المعرفة ما تفعله الكيميائيات في قطاع الجماليات. أما مَن بقيت لديه رغبة في القراءة فالأسواق العالمية مغرَقة بالمؤلَّفات المبتذلة المفسدة للذوق والفكر؛ وقد تصدى لكتابتها نخبةُ من لا تتوفر لديهم أية موهبة – اللهم إلا موهبة الربح والإنجاز
لقد وضع العلم اليوم يده على حقيقة هامة: إن كلَّ ما يجري من أحداث في الكون، بما في ذلك تظاهرات الحياة المختلفة، إنما هو انعكاس الحركة. هي حركة موجودة واحدة، لها وجهان مختلفان: المادة والطاقة. كان الطريق إلى كشف هذه الحقيقة طويلاً، واعتمد أساسًا صناعة النماذج. نذكر في هذا السياق أن الحياة هي نموذج مثالي للمادة والطاقة. تستند صناعة النماذج، بدورها، إلى توصيف جميع محتويات الطبيعة بلغة بسيطة واحدة متخصِّصة، هي لغة المعلومات أو المعلوماتية. وهكذا لم تحدِّد الحياة وجودها بالاقتصار على نتائج القِران الطويل العهد بين المادة والطاقة؛ بل إن الحياة هي، في واقع الأمر، التتويج الحتمي لحركة المعلومات الخاصة بذلك القِران وتطورها، وتركيزها، من ثَمَّ، في شكل قاعدة معلوماتية واسعة تُعرَف باللغة التكنيكية باسم "المعلومات الجينية". ويرتبط بكلِّ مخزونٍ معلوماتي رقمان يعبِّران عمَّا يحتوي ذلك المخزون من معلومات وعن جودة تلك المعلومات. لا تبرز المعلومات وتأخذ دورها إلا في الكرة الحية. ويستجيب الكائن الحي للمحتوى المعلوماتي للحادثة، وليس لمظاهر الحادثة، بينما يغيِّر التلوث من المحتوى المعلوماتي ويشوِّهه؛ فتشوَّه الاستجابةُ، بالتالي، ويتغير الكائن الحي إلى الأسوأ.
يتجلَّى التغير الأخير بإفساد علاقات التعاضد القائمة بين الكائنات الحية منذ ملايين السنين. لقد تميزت الحياة الأولى بكمٍّ معلوماتي منخفض وجودة معلوماتية عالية. وإذ كان على الحياة أن تستمر، فقد وَجَبَ البحث عن طرق أكثر أمانة، ليس في نقل الكمِّ المعلوماتي وحسب، بل والجودة المعلوماتية أيضًا؛ فكان التكاثر اللاجنسي، ثم التكاثر الجنسي باشتراك كائنين حيين. ولا ندري إن كان بمقدور الحياة أن تبدع أسلوبًا آخر من التكاثر، ربما باشتراك ثلاثة كائنات حية مثلاً. استطاعت الحياة، بإبداعاتها هذه، أن تصل إلى كائن متقدِّم هو الإنسان.
ووَصْفُ الإنسان بـ"التقدم" هنا له ما يبرِّره؛ إذ إن الكمَّ المعلوماتي في مخِّ كلِّ إنسان أكبر بكثير من الكمِّ المعلوماتي المتوفر في الكون الفيزيائي كلِّه. تحقَّقَ هذا التراكم المعلوماتي على مراحل وقفزات، وبرزتْ أولى أشكال الحياة الفاعلة عندما أتى إلى الوجود كائن حيٌّ يفوق بمعلوماته الكون الفيزيائي من حوله برمَّته؛ وانتهت بولادته المرحلة الأولى، أي مرحلة تصنيع الحياة. بدأت بعد ذلك المرحلة الثانية، أي مرحلة النقل الأمين للكمِّ المعلوماتي والجودة المعلوماتية من أجيال متقدمة إلى أجيال لاحقة من الكائنات الحية. وتُوِّجَتْ المرحلة، كما ذكرنا، بابتكار التكاثر الجنسي. وبعد هذا الابتكار دخلت الحياة في حارات ضيقة ومتاهات طويلة، بحثًا عن خزانات معلوماتية ذات مواصفات أعلى. ونتيجة ذلك البحث التقت الحياة خزانًا معلوماتيًّا متميزًا هو المخ الإنساني.
نواجه الآن المرحلة الثالثة من تطور الحياة. فقد أقدم التطور الصناعي، في العقدين الأخيرين، على إسقاط معيار الجودة المعلوماتية الذي تبنَّتْه الحياة عبر ملايين السنين من تطورها، مكتفيًا بالكمِّ وحسب. لقد اتَّحد الصناعيون على مواصفات غريبة، منها، أن تبلى صناعاتُهم بعد فترة قصيرة، بهدف الحفاظ على استمرارية إنتاجهم، بينما خاضت الحياة بعفوية، عبر ملايين السنين، أقسى معاركها بغية تحقيق مبدأ مختلف تمامًا، هو النقل الأمين للمعلومات الأجْوَد. إذا صحَّتْ الفرضية القائلة إن للحياة دورتين، تصعد عبر إحداها وتهبط عبر الأخرى، فعند ذلك يكون ما يفعله الصناعيون مبرَّرًا.
يرتبط الاستهلاك بالخواء النفسي والروحي؛ أما النظام فيقترن بتركيز المعلومات الجيدة وازديادها. إن الخواء ليس خواءً بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هو تخزين للمعلومات السيئة غير المفيدة. يتطلَّب تجميع المعلومات الجيدة نوعًا من التركيز والصفاء، في حين يلغي الاستهلاك التركيز ويشوش الصفاء؛ وبهذا يُفتقَد العامل الأساسي في التفريق بين الكون الفيزيائي وبين الحياة. إن الفوضى الكونية لن تجد في هذه الحالة ما يعيقها عن الانتشار. ولكن ما عسانا فاعلين بالإرث المعلوماتي الهائل الذي جمعتْه الحياة لنا؟ يجب أن نعود إلى الضروريات، وأن نتحسَّس مسؤوليتنا الأدبية تجاه الكون؛ إذ علينا أن ننقذ النشاط المعلوماتي من الابتذال الاستهلاكي المعاصر.
لقد تمخض التاريخ الأول للحضارة عن قيم أخلاقية محددة، كانت المطمح لغالبية الحركات الاجتماعية. دعونا نتأمل بعض هذه القيم، ثم نقارن ونقابل.
التقشف: هو أن لا يأخذ الإنسان إلا ما يحتاجه في إطار المحافظة على حياته وحسب.
الصدق: هو أن ننقل الحقيقة بشكلها الاجتماعي والذاتي، سواء من خلال القول، وعلى الأخص من خلال العمل.
الجمال: أن نعي أواصر القربى مع الطبيعة ونتفهَّمها، وأن نستكشف الصيغ المحكمة لتلك الأواصر في شكل أعمال فنية متقدمة ومعاناة جمالية أصيلة تمامًا، كما نستكشف علاقات أجزاء الطبيعة بعضها ببعض، ونضعها في معادلات رياضية.
ولمفهوم "الجمال" جانب خطير آخر أشبه بالمتع الحسية التي تقود للحفاظ على الحياة الفردية لكلٍّ منا. مثلاً: متعة التذوق التي لولاها لما تناول أيٌّ منا الطعام، ولما استمرت الحياة. وإذا كان للمتعة الجنسية منظورًا ذرائعيًّا ضيقًا وقريبًا، يتلخَّص في استمرار حياة الفرد ضمن فترة زمنية قصيرة، فإن للمتع الجمالية منظورًا استراتيجيًّا بعيدًا يرمي إلى الحفاظ على الحياة كظاهرة كونية فريدة. ويرتِّب ذلك الحفاظُ على الشكل الأصيل للمعاناة الجمالية وتطويرها استكشافَ مجاهل أكبر من تفاصيل العلاقة بين الطبيعة والإنسان، دون أيِّ تشويه قد يؤدي إلى طَمْسِ تلك المعالم، تمامًا كما في الكشوف العلمية. فأية إضافة خارجية ومفتعلة إلى التجربة ستغطي على الفور العلاقة الكامنة التي سعى الباحث، من خلال تجربته، لأن يضع اليد عليها. إن خطوط التغذية الراجعة feedback بين الطبيعة والإنسان، التي تمثل المعاناةُ الجمالية لها الكاشفَ المتطور أبدًا لتفاصيلها، مهددةٌ اليوم بالانفصام نتيجة طلاء التلوث الذي بدأ يغلِّفها؛ وقد بات لهذا الطلاء شكلان: بيئي، من جهة، وروحي فكري، من جهة أخرى.
لقد بدأت الوظيفة الجمالية بالأفول في عصر التلوث. ويؤيد ذلك توقُّف إنتاج الأعمال الموسيقية العظيمة في عصرنا، لأن المعاناة الجمالية أُفسِدتْ. فبدلاً من استلهام الطبيعة أصبحنا نستلهم صورها المعلَّقة في منازلنا. وإذا ذهبنا إلى بعض بقايا الطبيعة، فعلنا ذلك بشكل آلي مفصول عن الأسلوب الأساسي لتذوق الجماليات.
وقد ساعد في تشويه المعاناة الجمالية اضمحلال القيم الأخرى واستبدال قيم أخرى بها. مثلاً استُبدِل بالصدق عدمُ قول الحقيقة عن ثمن البضاعة؛ ومن بعدُ عدم قول الحقيقة فيما يتعلق بمغزى استعمال هذه البضاعة وضرورتها؛ وأخيرًا التغرير والدفع إلى شراء أية بضاعة واستعمال. تقوم الكيميائيات الملوِّثة بفعل مشابه في قطاع الجماليات؛ إذ تتمكَّن من عدم قول الحقيقة لدى التصنيف الجمالي لكلِّ ما هو موجود. وهكذا تستطيع الكيميائيات أن تبهرنا بأيِّ إنسان، لأن الكيميائيات تستطيع أن تؤمن أشكالاً لامتناهية العدد من الملابس الزاهية، وآلافًا من الطلاءات المختلفة التي تستطيع إخفاء العيوب النفسية، وتغطية الثغرات الفكرية خلف قناع الشكل آني الإبهار. من هذا المنظور، نجد صعوبة بالغة في الحكم على جمال المرأة في عصرنا لأن آلاف المشتقات البترولية، المعبأة بأشكال متمايزة، تحول دون قراءة مدى ما تتصف به امرأةٌ معينة من جمال داخلي. وعلى العكس، لا تتجمَّل المرأة الإفريقية إلا بالودع، والقطع الخشبية الصغيرة الملتقطة من جوانب الأشجار، والأصبغة الطبيعية غير الكيميائية، كالحنة. إن هذه الطريقة في التجميل لا تقطع الطريق على فهم ما قد تتمتَّع به هذه المرأة من طيبة وتباسُط. يرتبط التلوث، إذن، مع تحلُّل القيم. وهذا ما يمكن أن نسمِّيه بالتلوث الفكري والروحي.
لقد بقي الكتابُ الناقلَ الأمينَ والصادقَ لمنجزات الفكر البشري؛ ووصلتْ بعض الكتب حدَّ القدسية. أما اليوم فقد أسَّستْ بعض الشركات في عصرنا لإنتاج أغلفة الكتب المشهورة من البلاستيك! أذكِّر بالأذيات التي يسببها البلاستيك للطبيعة؛ ولكننا هنا بصدد التلوث الفكري والروحي. لذا أستطرد فأقول: إن هذه المنتجات هي مجرد أغلفة دون كتب داخلها! وهكذا فبإمكان أيِّ إنسان اقتناء أغلفة أهمِّ المؤلَّفات العالمية ورصفها في مكتبة منزله. وإذا أحبَّ معرفة بعض المعلومات عن المحتويات الغائبة لتلك الأغلفة بقصد المباهاة المعلوماتية، فهناك بعض أشرطة الفيديو التي تؤمِّن له موجزًا مشوهًا عن بعض ما يرغب فيه؛ وتفعل هذه الأشرطة في قطاع المعرفة ما تفعله الكيميائيات في قطاع الجماليات. أما مَن بقيت لديه رغبة في القراءة فالأسواق العالمية مغرَقة بالمؤلَّفات المبتذلة المفسدة للذوق والفكر؛ وقد تصدى لكتابتها نخبةُ من لا تتوفر لديهم أية موهبة – اللهم إلا موهبة الربح والإنجاز
بالتوفيق للجميع
منقول من موقع النخبة
محمد حسان
No comments:
Post a Comment